ثالثاً: تعليم المنطق
والفلسفة والرياضيات:
ولا شك في أن المنطق والرياضيات من
المواد التي تلعب دوراً كبيراً في تدريب العقل ومن هنا كانت الدعوة إلى تعليم هذه
المواد، مقياساً هاماً لقياس النزعة العقلية في ثقافة ما .
وقد عنى (ابن رشد) بدراسة قضية تعليم
الفلسفة والمنطق من الناحية الشرعية، وفي ذلك يقول (إن الفلسفة إذا كانت عبارة عن
النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، وأن الموجودات تدل على
الصانع لمعرفة صنعتها، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم،
فإن هذا يؤدي إلى القول بأن الشرع قد دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلب
معرفتها به. وهذا يتبين من آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (أو لم ينظروا في ملكوت
السموات والأرض وما خلق الله من شيء) (42) وقوله أيضاً :
(فاعتبروا يا أولي الأبصار) (43).
فالآية الأولى تحث على النظر في جميع الموجودات، والآية الثانية تنص على وجوب
استعمال الاستدلال العقلي. وعلى هذا يكون الدين قد حث ووصى على عمل الفلسفة، لأن
الله يأمر بالبحث عن الحقيقة(44). وإذا كان الاستدلال العقلي يعد
ضرورياً، فإنه يجب علينا الاستعانة على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك،
سواء أكان ذلك الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملة.
وهذا المبدأ يعد مبدءاً هاماً، إذ فيه
دعوة إلى البحث عن الحقيقة بصرف النظر عن كونها إسلامية أو كونها غير إسلامية، أو
كونها عربية أو غير عربية، كما تتضح أهميته حين ندرك أن من أسباب الهجوم على
المنطق أنه أتى من اليونان وأن صاحبه كافر(45). وشارك (ابن رشد) في الدعوة إلى ضرورة
تعليم وتعلم المنطق، فقال: إنه لما كانت العلوم النظرية (الطبيعية والرياضية
والإلهية) إنما تقوم أصلاً على البراهين العقلية لا النقلية فلا بد أن يدرس الطالب
(علم المنطق) الذي هو آلة الطالب الموصلة إلى اليقين عن طريق أحكام القياس ومعرفة
المنطق الذي يقيه من السهو والغلط، ويرشده إلى الطريق الذي يجب أن يسلكه حتى يعرف
حقيقة الحد الصحيح والدليل الذي هو البرهان العقلي، وبالتالي يستطيع التفريق بين
البرهان العقلي والبرهان الجدلي المقارب له(46). ويذكر (الغزالي) في مفتتح الجزء الأول
من كتابه (المستصفى) من شروط العالم المجتهد غير المقلد أن يحيط بعلم النظر ويحسن
إيراد البرهان وإجراء القياس. وكان يأخذ على العلماء أنهم لا يشتغلون بتحصيل هذا
العلم فقال في كتابه (المنقذ من الضلال): (إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام
بعلم الفلسفة، وعلمت يقيناً أنه لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على
منتهى ذلك العلم حتى يساوي أعلمهم في أصل العلم. ولم أر أحداً من علماء الإسلام
صرف همته وعنايته إلى ذلك، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم حيث اشتغلوا بالرد
عليهم، إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد لا يظن الاغترار بها بغافل
عامي فضلاً عمن يدعي حقائق العلوم، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه والاطلاع على كنهه
رمي عماية، فشمرت عن ساعد الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرد المطالعة من غير
استعانة أستاذ ومعلم، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التدريس) (47). وبعد دراسة المنطق رأى (الغزالي) أن
خطأ المناطقة إنما يعتريهم من ناحية التطبيق ولا عيب في أصول النظر على استقامة
فهمها وصدق الرغبة في المعرفة الصحيحة، ومن ذلك قوله في كتاب (مقاصد الفلاسفة):
(فأما المنطقيات فأكثرها على منهج الصواب، والخطأ نادر فيها، وإنما يخالفون أهل
الحق فيها بالاصطلاحات والإيرادات دون المعاني والمقاصد) (48). ومن هذا المنطلق نجد (ابن حزم) - في
ثنايا مؤلفه الشهير المسمى بالفصل في الملل والأهواء والنحل- يدافع عن تعلم وتعليم
كل من الفلسفة والمنطق فيقول: (إن الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها،
والغرض والمقصود نحوه بتعلمها، ليس هو شيئاً غير إصلاح النفس.. وهذا نفسه لا غيره
هو الغرض في الشريعة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من العلماء بالفلسفة ولا أحد من
العلماء بالشريعة.. اللهم إلا لمن انتمى إلى الفلسفة بزعمه، وهو ينكر الشريعة
بجهله على الحقيقة بمعاني الفلسفة، وبعده من الوقوف على غرضها ومعناها).
وواضح من هذا النص أن (ابن حزم) لا
يرى داعياً لمعاداة الفلسفة: فإن غاية الفلسفة الحقيقية إنما هي الحكمة العملية _
أو إصلاح النفس _ وتلك الغاية بعينها هي غاية الشريعة، فلا تعارض إذن بين الاثنتين(49). وأما عن المنطق، فإن
(ابن حزم) أعرف الناس بقيمته، إذ نراه يقرر بصراحة أن (الكتب التي جمعها (أرسطو
طاليس) في حدود الكلام.. كلها كتب سالمة مقيدة دالة على توحيد الله عز وجل وقدرته،
عظيمة المنفعة في انتقاد جميع العلوم، وعظم منفعة الكتب التي ذكرنا في الحدود، ففي
مسائل الأحكام الشرعية بها يتعرف كيف التوصل إلى الاستنباط، كيف تؤخذ الألفاظ على
مقتضاها، وكيف يعرف الخاص من العام والمجمل من المفسر، وكيف يتم تقديم المقدمات،
وإنتاج النتائج، وما يصح من ذلك صحة ضرورية أبداً وما يصح مرة وما يبطل أخرى،
ومالا يصح البتة، وضرب الحدود التي من شذ عنها، كان خارجاً عن أصله ودليل الخطاب،
ودليل الاستقراء، وغير ذلك مما لا غناء بالفقيه المجتهد لنفسه ولأهل ملته عنه)(50). رابعاً: تعقيل طريقة
التعليم:
كانت (البصرة) هي موطن (العقل) الذي
يحاول ألا ينثني مع عاطفة أو تزمت أو عصبية، فلا غرابة إن وجدنا طريقتها التربوية
تهدف إلى صب الفكر في قوالب المنطق، أو إن شئت فقل صبه في أطر رياضية (والمعنى
واحد)، وكان اهتمامهم بعلم النحو، أي بالتماس القواعد التي يطوع لها كلام العرب
سواء تحقق لهم هذا التطويع على صورة طبيعية أم افتعلوه افتعالاً بقسرهم الشاذ -
والشواذ عن قواعدهم كانت أكثر من أن تهمل أو يغض عنها النظر - على أن يجد إلى
القاعدة طريقاً حتى ولو كان طريقاً غير مباشر، وفيه كثير من التكلف والتعسف، فما
استحال معهم أن يجد طريقه إلى قواعد النحو حتى عن هذا الطريق الملتوي المتعسف،
قالوا أنه لا يصلح أن يقاس عليه لأنه خطأ(51). وكان موقف (المعتزلة) يسمح بقيام
مختلف العلوم على أسس عقلية دون إنكار لله، فالظواهر تحكمها قوانين أو علل ضرورية
بما طبعها الله عليها، بعكس موقف (الأشعري) الذي لا يثبت إلا إرادة الله فيجعل
إمكان قيام العلم متعذراً، ففي علم الاقتصاد، الله هو المسعر لدى الأشاعرة وبذلك
ينتهي القول في هذا العلم، ولكن رأي (المعتزلة) يدع الإمكان بقولهم، السعر فعل
مباشر من العبد، إذ ليس ذلك إلا مواضعة منهم على البيع والشراء بثمن مخصوص، فهو
تقدير الثمن الذي تباع به الأشياء على وجه التراضي(52). وأكد بعض المفكرين على هدف التدريب
العقلي عند تعليم بعض المواد كالمنطق والرياضيات، فتعليم المنطق - مثلاً وكما بينا
- يعطي (جملة القوانين التي من شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق
الصواب، ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات، والقوانين التي تحفظه
وتحوطه من الخطأ والزلل والغلط في المعقولات)(53). وذهب (ابن خلدون) إلى مدى بعيد في
تعليم التاريخ بطريقة عقلانية، فلقد أوجب على أصحاب التاريخ أن يجعلوا من الوقائع
موضوعاً للتأمل، وأن يستخرجوا منها قوانين عامة تطبق على سير الحوادث في الزمن أو
الحياة الاجتماعية، إن الهدف من تعليم التاريخ ليس هو هز المشاعر أو سحر الألباب
أو خدمة الحكومات. وهو ينتقد هؤلاء الذين يكتفون بتعداد الحوادث التي تقع أثناء
حكم هذا الملك أو ذاك، وسرد شجرة أنسابهم وأسماء وزرائهم، أما الهدف الصحيح فهو
التفسير والإفهام(54). وانتقد (ابن باديس) أساليب التربية
ومناهجها في المعاهد الإسلامية في عهود التدهور كجامع الزيتونة والجامع الأزهر،
وعاب عليها جفاف أسلوبها واشتغالها بالمحاكاة اللفظية، كما عاب عليها مبالغتها في
العناية بالفروع مع إهمال الأصول، وقد ضرب لنا مثلاً على عقم أساليب التعليم في
جامع الزيتونة بحالته هو شخصياً عندما كان طالباً فيه (1908 - 1912) فذكر أنه حصل
على شهادة عالية من الزيتونة، ومع ذلك لم يدرس آية واحدة من تفسير القرآن الكريم،
ولم يمل قلبه إلى دراسته لعدم تشجيع أساتذته وتوجيههم له (55). وقد عرف العرب فكرة توجيه التلاميذ
على حسب مواهبهم، وكانت عملية التوجيه هذه تبدأ بعد أن يجتاز التلميذ المرحلة
الأولى للتعليم، وقد ذكر (حاجي خليفة) و (أبو يحيى الأنصاري) أن على كل صبي أن
يعرف طرفاً من العلوم الضرورية في الحياة كالقراءة والكتابة والحساب، ثم عليه بعد
ذلك أن يتجه إلى العلم أو الحرفة على حسب استعداده وتكوينه، إذ ليس كل فرد يصلح
لتعلم العلوم يصلح لجميعها.. وإلى نفس المعنى ذهب (جابر بن حيان)، إذ أوجب على
المعلم أن يمتحن قريحة المتعلم، ويعني بالقريحة،جوهر المتعلم الذي طبع عليه ومقدار
ما فيه من القبول، والإصغاء إلى الأدب إذا سمعه وقدرته على حفظ ما قد تعلمه وعلى
تذكره، فإذا وجد المعلم في تلميذه قبولاً، ذا أرض زكية وجوهر ترتضع فيه المعلومات
كلما ارتسمت فيه أخذ يسقيه أوائل العلوم التي تتناسب مع قدرته على القبول وتتناسب
مع سنه وخبرته، ولم يزل به يلقنه العلم أولاً، وكلما احتمل الزيادة زاده، مع
امتحانه فيما قد تعلمه، فإن كان حافظاً لما كان سقاه وغير مضيع له، زاده في الشرب
والتعليم، وإن وجده ينسى ويتخبل في حفظه، أنقص له المقدار، وعاتبه على ذلك، ثم
امتحنه بعد ذلك ثانياً وثالثاً فإن وجده على ما كان عليه سابقاً، هزه بالعتاب
وأوجعه بالتقريع(56). ولا يرى علماء العرب شراً في الغرائز
أو الشهوات إلا إذا خرجت عن حد الاعتدال، فيرى (الغزالي) مثلاً أن الشهوة خلقت
لفائدة، وهي ضرورية في الجبلة. ويرى آخرون أن جميع ما وضع في الآدمي إنما وضع
لمصلحة أما لاجتلاب نفع كشهوة الطعام أو لدفع ضر كالغضب، فإذا زادت شهوة الطعام
صارت شرهاً فآذت، وإذا زاد الغضب أخرج إلى الفساد(57). ولابن سينا حديث ممتع عن أنواع
الرياضة في عصره والتي يرى أهميتها في حياة الصبي حسب سنه وقدرته، فهو يتحدث عن
المنازعة والمباطشة وسرعة المشي والرمي من القوس والقفز إلى شيء ليتعلق به والحجل
على إحدى الرجلين، والأراجيح وركوب الخيل..الخ، كما أنه يرى ضرورة أن تخلط
الرياضات الشديدة والسريعة بفترات من الرياضة أو برياضات فاترة مع وجوب تنقل الطفل
بين الرياضات المختلفة، إذ لكل عضو رياضة تخصه.
وقد أهتم باللعب والرياضة في تعليم
الأطفال، وليست المسألة في التعليم مسألة قدرة فقط، وإنما لا بد كذلك من مراعاة
(الميل)، ومن هنا فقد رأى (أخوان الصفا) أن العلوم لما كانت كثيرة ولا يستطيع
الإنسان أن يحيط بها كلها، وكان منها ما لا تقبلها نفسه ولا تميل إلى معرفته وما
لا يشعر برغبة تجاه تعلمه البتة، فإن الواجب على الإنسان أن يتعلم العلوم التي يجد
في نفسه الرغبة والميل لأن يتعلمها، وعليه أن ينظر بعقله ويميز بينها ليختار مالا
بد له من تعلمه ويتلائم مع ميوله(59). وللإخوان طريقتهم، إذ يقوم الداعية
لجماعتهم أو الحكيم أو المعلم بقراءة أجزاء من الرسائل على الأخ الجديد - بعد
مراقبته من أفراد الجماعة وثبوت صلاحيته - فيقوم بمحاورته في محتوى هذه الأجزاء
دون أن يعطيه إجابة كافية أو نهائية في موضوعات مختلفة، مما يثير فضول الأخ ويدفعه
لمحاولة معرفة حقائق ما أثير أمامه من قضايا أو ليتوجه للبحث عن مزيد التفصيلات،
وقد جاءت الرسائل فيما يقررون بمثابة التطبيق لهذه الخطوة، ذلك أنهم قد ذكروا من
كل علم فيها (نسبة المقدمة والمدخل إلى باقيه ليكون تحريضاً لإخواننا على التمهر
فيه والشوق إليه لأن بالشوق إلى الشيء يكون الحرص على الاطلاع عليه والمعرفة به،
مما يدفع بالتلاميذ الجد في طلب علومهم ويتجهون لسؤال أهل العلم من الأخوان عما لا
يعلمون)(60). أما (موفق الدين البغدادي) فهو يشير
إلى ضرورة التفكير والبحث في العملية التعليمية، ومن هنا يقول (ولا تظن أنك إذا
حصلت على علم فقد اكتفيت، بل تحتاج إلى مراعاته لينمو ولا ينقص ومراعاته تكون
بالمذاكرة والتفكر واشتغال المبتدئ بالحفظ والعلم ومباحثة الأقران واشتغال العالم
بالتصنيف. وينبه الشيخ (برهان الإسلام) المتعلم ألا يكتب شيئاً لا يفهمه لأن ذلك
يورث كلال الطبع ويذهب الفطنة، وينبغي له أن يجتهد في الفهم من الأستاذ ويكثر من
التأمل والتفكر)(61). والمتتبع لطريقة التعليم في المراحل
العالية يلمس ما كانت تتميز به من كثرة النقاش والجدل بين أطراف العملية
التعليمية، فما أن ينتهي المعلم من درسه، حتى توجه إليه الأسئلة من كل صوب، وينصح
البعض بأن تكون الأسئلة في نهاية الدرس، ومن ثم فلا يصح أن يقاطع الطالب معلمه
بسؤال ما وإنما يصبر حتى ينتهي الدرس.
وهاجم (ابن خلدون) بشدة، الطريقة
اللفظية في التعليم، ونعني بها الحفظ من غير فهم مما يدل عليه المحفوظ من خبرات
حسية، ويرى أن الحفظ بهذه الطريقة معوق لملكة الفهم، ولذلك فهو يلوم المدرسين
الذين يعتمدون على طريقة الحفظ والتسميع لأن التعليم بهذه الطريقة لا يترك أثراً
في عقول التلاميذ، ويستدل على ذلك بأن مدة التعليم في بلاد المغرب كانت ست عشرة
سنة، ومع ذلك لم يحصل الناشئون على المهارة في العلم، وكسب الملكة فيه بسبب اهتمام
المدرس بالحفظ دون سواه، وعكس ذلك النظام التعليمي في تونس، إذ لا تزيد مدة
الدراسة التونسية على خمس سنوات، ومع ذلك يحصل الناشئون على ملكة العلم بسبب
اهتمام المدرسين بالمناظرة والبحث(62). ويقول ابن خلدون:
(ومما يشهد بذلك في المغرب بأن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم (ست
عشرة سنة) وهي بتونس خمس سنين، فطال أمدها في المغرب لهذه المدة لأجل عسرها من قلة
الجودة في التعليم خاصة لا مما سوى ذلك). ولذلك يدعو (ابن خلدون) إلى نبذ هذه
الطريقة وإتباع ما يشبه الطريقة العلمية في مناقشة مشكلات العلم، ويكون ذلك بطريقة
المحاورة والمناظرة في المسائل العلمية والاعتماد على ملكة الفهم عند التلاميذ مع
دراسة النمو العقلي لهم ومراعاته والاستعانة ما أمكن بالأمثلة الحسية التي تقرب
الموضوعات إلى أذهان التلاميذ، وفي ذلك يقول (ابن خلدون): (وأيسر طرق هذه الملكة،
ملكة الفهم وهو فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهذا الذي
يقرب شأنها ويحصل مرادها)، كما يقول في موضع آخر: (فنجد طالب العلم منهم، بعد ذهاب
الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية - سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم
بالحفظ أكثر من الحاجة، فلا يحصلون على طائل من ملكة التصريف في العلم والتعليم،
ثم بعد تحصيل من يرى منهم أنه قد حصل، نجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو
علم، وما أتاهم من قصور إلا من رداءة طريقة التعليم وانقطاع سنده، وإلا فحفظهم
أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به وظنهم بأنه المقصود في الملكة العلمية وليس
كذلك) (63). ويذكر (الغزالي) أنه تناظر مع مشاهير
العلماء وقادة الفكر في معسكر الوزير نظام الملك وانتصر عليهم جميعاً، ويصف
(السبكي إسماعيل بن يحيى) المتوفى سنة (175هـ) بأنه جبل من العلم على جانب عظيم من
المهارة في المناظرة، قال عنه (الإمام الشافعي) أنه لو ناظر الشيطان لغلبه. ويقول
(المقريزي) عن أحد العلماء المشهورين أنه كان يشجع المناقشة بين تلاميذه بل كان
يصر عليها، ويرى (الزرنوجي) أنه لا بد للطالب من المذاكرة والمطارحة والمناظرة:
(فإذا كانت نيته إلزام الخصم وقهره، فلا يحل ذلك، وإنما يجوز ذلك لإظهار الحق) (64). ولقد أكسب الاهتمام بالمناظرة
والمناقشة عملية التعليم نشاطاً وحيوية، وقوّى الناحية الإيجابية والتلقائية إذ
جعل المتعلم يساهم في تعليم نفسه، وشحذ ذهنه وأطلق لسانه وعوّده القدرة على النقد
والتفكير وجودة التعبير وقوة الإقناع، كما أكسبه جانباً كبيراً من حرية الفكر
والثقة بالنفس وعالج كثيراً من العيوب الناشئة عن طريقة الحفظ الآلية.
وتمثلت الروح الديموقراطية في طريقة
التعليم في المعاهد الإسلامية من جانب آخر، إذ لم يكن هناك مكان مميز في حلقات
الدرس لآحاد الناس، بل كان الجميع عند المعلم سواء ومن سبق من الطلاب إلى موضع من
المكان المخصص لهم جلس فيه، وليست المسألة مسألة الجلوس فحسب وإنما كان على المعلم
أن يعامل الفقير معاملة الغني، فقد ورد في الحديث الشريف ما يحتم أن يكون
المتعلمون أمام المعلم على حد واحد لا فرق بين غني وفقير(65). وكانت توجه عناية خاصة للطلاب الذين
تبدو عليهم مخايل الذكاء والفطنة، وكان من الظلم أن يحرم طالب نابغ من تلقي العلم
لأي سبب من الأسباب، وذكر (الغزالي) أنه ليس الظلم في إعطاء العلم المستحق بأقل في
منع المستحق، وكانت عناية المدرسين بتلاميذهم الفقراء تصل بهم إلى حد الإنفاق
عليهم من مالهم الخاص.